حيلة المثقف السوداني إزاء حرب الأوليغارشية السودانية

صلاح شعيب

اندلعت حرب السودان بلا هوادة، وخلفت مآسيها على تفاكير العامة بخلفياتهم المتنوعة، والمثقفين بأنماطهم المتعددة. بين الجيش والدعم السريع صارت هناك تحالفات جديدة عسكرية، وسياسية، وجهوية، وثقافوية، انمحقت في أحايين كثيرة عندها وشيجة الأيديولوجيا من جهة لتجمع المصابين بداء العرق في النظر لما هو جمعي من الجهة الأخرى. أما في الأحايين القليلة فقد تفرقت نزة الدم بين فسيفساء المصلحة الذاتية للجماعات، والأفراد، ومن ثم صار هناك قطيعان مؤثران في شحيذ مؤونة الحرب.

كل واحد من هذا القطيع، أو ذاك، له مبرراته التي تتناقلها الصحافة، والإذاعات، والفضائيات، ووسائط التواصل الاجتماعي، وثرثرات المجالس. ومع ذلك تخفي هذه التبريرات صلة الدم المحرض للموقف السياسي، أو تتغلف هذه التبريرات بما تحتال به على الموضوعي، أو العقلاني، ليفوت على فطنة المتلقي ملاحظة ثقل الانحياز للدم.

القطيع الذي انخلط فيه الأيديولوجيون مع الانتهازيين، مع بعض المكونين للصرة الحزبية المركزية، ومعاشيين مايويين، وإنقاذيين، هم بلا مذهبية عرفانية. إذ يأتي تبريرهم لمواقفهم كفراناً بالمعالجة القومية التوجه، وماضيهم الإيجابي في التجاذب معها أثناء لحظات مراكمة الكفاح العام. إذ تكون الجغرافيا عوضاً لدى هذا الفريق اليوم هي ميسم التوجه في الموقف والتنكر لتاريخ التعاون المشترك المتراكم، والذي لا بديل عنها حين التمييز بين الرأي السديد، والآخر الخطل. ذلك إذا كان المطلوب بإلحاح في هذه اللحظة الحاسمة من عمر “الأمة السودانية” هو المثقف الذي لا يخون وعيه، أو الوطن، أو مواطنه على امتداد الرقعة الجغرافية المتسعة للبلاد.

أما القطيع الآخر فهو حيثما مالت مصلحته الفردانية مال. تركيبته مشجعة للبحث الإمبريقي، إذ هي تضع أصحاب المال، والعلاقات الطفيلية البينية في موضع لمجابهة نداء العرق الداخلي بمواقف لا تتورع من توظيف قرابات الدم، والجغرافيا، لمقتضى النصر للنوع المناطقي، وليس إجمالي الأنواع. الهدف في هذه الحالة هو ممالأة ما يُظن أنه منتصر في المعركة المصيرية للطرفين المتقاتلين بشراسة. تارة بالدانة، وتارةً ببراميل القصف الجوي فوق مقرات ما سموها الأعيان المدنية، وذلك حتى تُنجز المصلحة الذاتية الحتمية بعد الحرب لهذا الفريق، أو ذاك.

إن المثقف والحرب هو العنوان الأبرز الذي ينبغي النقاش حول مضمون متنه الآن، وفقاً للإحراج العظيم الذي سببته حرب الجيش والدعم السريع لمثقفين من البلاد المكلومة نفسها بأفاعيل، وأباطيل مثقفيها – غير العضويين – على مدار فترة ما بعد “الاستغلال الوطني”. والمثقف التقليدي المتجادل اليوم مع يوميات الحرب طبعاً إنسان، له شعور، وأحاسيس، ومرجعيات تحيز، ولا ينطلق من تجريد نظري فقط في كل الأحوال. ففي وعيه، ولا وعيه، يكمن هم الانتماء لمصالح أهله الأقربين الذين تحدر منهم. والمثقف التقليدي هو من لم يملك عقلاً نقدياً يشكك في نوايا الجماعة، ويردها للصواب مهما كلفه ذلك من عنت، ورهق، على انه وهو بذلك الوصف يريدنا أن ننظر اليه لنراه في خانة المثقف النموذج.

ولو لم يكن تقليلدياً، أي خادم ضد الحداثة في النظر، فإنه لن يتفاعل انحيازا، أو اتباعا لقطيعه الاثني، أو المناطقي، أو القبلي. ومثقفو السودان بالغ ما بلغوا أنجبتهم بيئات ريفية، ومدنية، ومعظمهم يدينون بالولاء الكامل لها، وحين يعبرون برؤية تجاه الحرب يصطحبون مصالح مناطقهم بالضرورة عبر تقاطعات مجتمعية تتطلب التماهي مع الأيدلوجية، أو التنظيم السياسي. أي يتحايلون علينا بأن نظرتهم مجردة من الأنا الصغرى عندما يصدر خطابهم بعبارات محتالة يُظن للوهلة الأولى للقارئ او المستمع أنها عقلانية، محكمة، وموضوعية. ولا تنسى أن هؤلاء المثقفين معرضون لابتزاز، أو عتاب غليظ من أهاليهم لو أنهم انحازوا إلى الحقيقة على حساب القبيلة.

التعميم في محاجة المثقف والحرب مخل. فبطبيعة الحال، قليلون من المثقفين غير التقليديين الذين يعبرون فوق الانتماءات الأولية لتكون الأنا عندهم جمعية تتضمن مصالح كل الجهات. وهذا ما بدا لمثقفين متجردين في قراءتهم لحرب البلاد التي كادت أن تصل إلى كامل اكتمالها وفقاً لمترتبات جهوية، مع الفارق في وجود مغابن أيديلوجية مرة في كل مكان تجاه الكيزان، وأخرى جهوية غاضبة تجاه الدعم السريع، أو الجنجويد في عرف الذين لا يقرون بتعريف البرلمان الإنقاذي لهذا الفصيل العسكري، أو بتعريف الوثيقة الدستورية التي باركها كل أطراف الحرية والتغيير قبل انفلاقها.

هولاء المثقفون القليلون هم الذين قالوا لا للحرب بمظنة أنها فوقاً عن كونها تقضي على الأخضر واليابس في الأرض البكر، وتفسد علاقات البشر الـمتساكنين، أو المتجاورين، وفي جوهر هذا الإفساد فإن أكثر الضحايا تضرراً من هذه الحرب هم طبقة البوليتاريا. وهذه الطبقة في العالم، وخصوصاً السودان ظلت هي وقود الحروب، نظراً لأن الطبقتين الوسطى، والأوليغارشية، مستنفعة بعرق جبين البلوتاريا، وبدم تضحياتها بالروح في كل فترات تاريخنا ما بعد الاستقلال تنفرز ذينك الطبقتان في سلم الاجتماع الهانيء نسبياً. فالحقيقة تقول إن المثقفين وهم أبناء المزارعين والجنود والرعاة في بلادنا حين يصلون للسلطة يتنكرون لهم لدرجة كأنهم ينتقمون من تاريخ فقرهم المديني ليتبدوا بأنهم جزء من مجتمع السادة العظام. ومعظم مثقفينا الكبار يهجرون السكنى مع طبقاتهم الاجتماعية التي تحدروا منها، ويرومون الانفصال عن ماضي الفقر من خلال مجاورة الأثرياء في المنتجعات السكنية الجديدة ليخلقوا أبناء وأحفاداً يمسحون ما يرونه عار الفقر.

في أثناء بحث هذه البلوتاريا النازحة إلى الداخل والخارج بلا هدى في أزمنة القصفين المدفعي والجوي، كان من يطرح نفسه مثقفا طليعيا مساندا للجيش يطالبها بأكثر مما يجب: الاستنفار البلوتاري على أسنة الرماح، بديلاً عن اجتراح ضغط جمعي معنوي لفرض حلول سلمية لحرب وصفها طرف متهم بإشعالها أنها عبثية.

تذكر أن هذه الحرب – وكل حرب دخلت تاريخنا الوطني – لا تحصد أرواح مثقفي الطبقة الوسطى، ولو كانت كذلك لما قامت من أساسها. هي بالكاد تمنحهم فرصا أوسع من فرص البلوتاريا في التكيف معها داخل البلاد، أو خارجها. ولذلك نفهم أسباب علو صوت المنادين باستمرار الحرب، أولئك الذين يعيشون خارج دائرة التدوين العسكري للآت العسكرية التي تقع على رأس البلوتاريا المساكين المعذبين بغياب الغذاء، والدواء، والأمن.

إذا خلصنا حرب السودان التي ضيعت عاماً دراسياً للتلاميذ والطلاب من جور النظرة الجغرافية، وألايديولوجية، والإثنية، فإن الحاجة ضرورية لإعادة موضعتها ضمن جدل الصراع السوداني – السوداني الذي يعود إلى بواكير فترة الاستقلال، على الأقل حيث نشأت الأوليغارشية الجديدة بعد الاستعمار لتنسج مسارا لإعلاء نفوذها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالحرب الحالية هي تناسل لحروب عديدة خاضتها هذه الأوليغارشية بمختلف تنويعاتها لإخضاع كل المجموع السوداني ضمن شروط لعبتها الموصوفة أحياناً بالانتهازية والطفيلية ضمن شروط الحاجة المركزية لمثقفي زور. فطبيعة الأوليغارشية كما دلت متابعتنا لها تاريخيا أنها تقفل الحوار الوطني عند حدود عدم خروجه من إسار الأقنوم الذي ترسمه لما ينبغي أن يكون عليه جدلنا الجمعي. فما تقول به من مفاهيم وطنية حول الحرب والسلم إنما هو نتيجة لرؤيتها الصمدية هي فقط. وبالتالي رسمت لنا إطاراً أحاديا للعمل القومي، حيث أسسته بالعنف، وزادت عنه بدم المستضعفين نفسهم. وما من حائط صد لحماية الطبقة الأوليغارشية الموظفة للدين والترميزات الإثنية في سلمها وحربها ضد الكل المعارض لها أكثر من الكل ذاته، حيث تغدو عملية تغبيش الوعي وسيلة لقتل أية محاولات لمساءلة مواضيع الحرب والسلم بمقاربات تختلف في جوهرها عن نظرة الطبقات السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والإعلامية، المختطفة للقرار الوطني. وهذه الطبقات كما نعلم تكون جماع هذه الجماعة التي تمتص دماء الشعوب السودانية بذات الطريقة التي تمتص بها الحشرات الجيفة.

وعندئذ تتورط النخبة كما هو حادث الآن في الاستجابة لاسترتيجية النخبة إذ تشجع لعباتها الماكرة بعد أن تستلب ذاكرتها، وتكون حفزا إعلاميا لها في مقابل الانتلجنسيا التي دائما تعتمد التساؤل النقدي والأخلاقي إزاء المطروح على المشهد السياسي الذي تحتطفه الحرب.

كان جدل المؤيدين للجيش والدعم السريع هو ألا حياد إزاء الحرب التي انبثقت خارج سياقات الرضا المجتمعي. فالفريقان لا يقبلان بالموقف النقدي ويريداننا أن ننشبك بكل بلاهة كما انشبكا ليغزيا يومية الحرب بخطابات تدعي العقلانية بينما هي تقتلها، بحسب أنها عقلانية تتشكل وفق أيديولوجيا شروط الواقع الاجتماعي السائد. ولو أن المثقف العضوي هو الذي يملك بأدواته المعرفية تحديد خياراته السياسية دون أن تستعلي عليه وجهات نظر هي ذاتها مندغمة في لعبة الصراع، فكيف عساه أن يوازن بين نصرة الأهل أم الحقيقة؟. وكيف يكون المثقف مفيداً إذا كان وضعه في المجتمع هو أن يمالئ هذا الفريق دون أن يفترض أن حسابات نظره ليست مقدسة وإنما تنبني على طائفة من داتا المعرفة؟. وكيف يكون المثقف مثقفاً حين تحدد له طريقاً أحادياً بأن يدعم هذا الفريق أو ذاك، وإلا فهو عميل، أو غير وطني؟ أوليس المثقف هو المسؤول وحده عن مواقفه التي يتخذها بناءً على تناقض ضروري مع تاريخ مسار الأوليغارشية الوطنية الفاشلة دائمآ، والتي تقبض على مفاصل الواقع، وتطوعه حتى تتعامى نظرتنا عن اكتناه جوهره.؟ ثم ماذا عن مغبة الانخراط في وحل أيديولوجيا الدولة التي أوصلتنا إلى هذا الحرج، ولا شيء خلافها؟ أتريديني أن استنفر البلوتاريا عسكريا وإعلاميا بينما الانتلجنسيا الذين أشعلوا الحرب يثرثرون في مجالسهم في القاهرة، واستانبول، والدوحة، وينشغلون بمدى الدرجات العلمية التي يتحصل عليها أبناؤهم وبناتهم في كلية للطب بديلة في رواندا، والصومال؟

لدى مثقف السودان العضوي ما يكفيه من جرح الذات كي يرى تجارب الحرب بعد “الاستغلال” محاولات لإخضاع الكل باقتتال الكل نفسه، ولصالح “البعض”. ولذلك ليس من أمام هذا المثقف سوى أن يجهر بالرأي ضد الحرب، ليس لأن حطبها الجيد دائمآ بوليتاريا البلاد فحسب، وإنما أيضا لأن غاياتها توطين بقواني جديدة للاستبداد المجرب، في نوعه الناعم، والخشن.

باختصار..حرب السودان الراهنة خلقتها طائفة من الأوليغارشية السودانية التي اكتوى بنارها فلذات أكباد الطبقة الوسطى، والبوليتاريا، فانتحرت هي الأخرى لتحيا من جديد. وللأسف يخدمها في هذا المسلك الانتهازي أبناء وبنات هاتين الطائفتين الاجتماعيتين حتى تعود في حال انتصارها لاستعبادهم مرة أخرى، كما تظن.

 


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.