خاص _ شبكة _ الخبر في واحدة من أكثر لحظات ما قبل سقوط النظام غموضًا ودلالة، حلّقت طائرة إسرائيلية فوق سماء السودان بصمت مطبق، دون تصريح رسمي، ودون أن يعترضها أحد. لم يكن ذلك محض صدفة، بل نتيجة مكالمة هاتفية خاطفة بين ضابط الموساد ومهندس الظلال في الخرطوم، صلاح قوش، الذي ردّ بكلمة واحدة: “انطلقوا”.
هكذا بدأت أولى خطوات التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب، من خلف ستار، بينما كانت الشعارات في العلن ترفع “لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض”. فكيف ولماذا قرر النظام، عبر جهاز أمنه، أن يمنح إسرائيل مفاتيح الأجواء السودانية؟
في يناير من عام 2019، وبينما كانت الخرطوم تغلي تحت وقع الاحتجاجات الشعبية التي مهّدت لسقوط نظام عمر البشير بعد ثلاثة أشهر، كانت طائرة تابعة لشركة “العال” الإسرائيلية تشقّ الأجواء السودانية في طريق عودتها من العاصمة التشادية إلى تل أبيب، في رحلة غير معلنة وبلا غطاء دبلوماسي أو إذن طيران رسمي.
التفاصيل المثيرة كشفتها صفحات كتاب سلام ترامب: اتفاقيات أبراهام وإعادة تشكيل الشرق الأوسط للصحفي الإسرائيلي باراك رافيد، حيث أشار إلى أن هذه الرحلة الجوية لم تكن مجرد خطوة لوجستية، بل جسّ نبض دقيق لمدى استعداد السودان للانخراط في مشروع التطبيع الذي كانت تدفع به إدارة نتنياهو بتنسيق مع البيت الأبيض آنذاك.
بدأ كل شيء خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى تشاد في نوفمبر 2018، حيث عبّر عن رغبته في فتح ممر جوي مباشر بين إسرائيل وأمريكا اللاتينية عبر أجواء تشاد والسودان. استجاب الرئيس التشادي إدريس ديبي لهذا الطموح، وعرض التوسط لدى الخرطوم، مكلفًا مستشاره الأمني الجنرال صالح بالتنسيق.
ما تلا ذلك كان أشبه بمشهد من أفلام الجاسوسية: مكالمة هاتفية بين ماعوز، مبعوث نتنياهو، والرئيس السوداني عمر البشير، تلتها اتصالات مباشرة مع رئيس جهاز الأمن والمخابرات السوداني، صلاح قوش. لم يتردّد قوش لحظة عندما طُلب منه السماح للطائرة الإسرائيلية بالمرور: “انطلقوا”، قالها بلا شروط. وعندما سُئل عن الخطر المحتمل، أجاب بثقة: “حلّقوا على ارتفاع عالٍ وبسرعة… لا تقلقوا”.
لم يحصل الإسرائيليون على إذن رسمي من هيئة الطيران المدني السودانية، لكنهم حصلوا على ما هو أهم: ضوء أخضر أمني من قوش، الذي بدا كأنه صاحب القرار الفعلي في الخرطوم حينها. وعندما تواصل الطيارون مع برج المراقبة في العاصمة السودانية، قوبلوا بصمت، لكنه لم يكن صمتاً عدائياً؛ بل صمتاً مقصوداً، يمرر الرسالة دون ورق.
هذه الحادثة تكشف حجم التباين بين الخطاب السياسي العلني للنظام البائد وسلوك مؤسساته الأمنية في الكواليس. فبينما ظلّ البشير يتبنى خطابًا معاديًا لإسرائيل في العلن، كان جهاز أمنه يجسّر خطوط التواصل عبر قنوات غير رسمية تمهد لمرحلة ما بعده، وكأن قوش كان يجهّز الأرضية لتسوية خارجية تُستخدم كورقة نجاة من الداخل المأزوم.
كما تسلط الواقعة الضوء على تغييب المؤسسة الرسمية – وزارة الخارجية، هيئة الطيران المدني، البرلمان – في صناعة قرار استراتيجي ذي طابع سيادي. فقد تم تجاوز هذه الجهات بالكامل، ما يعكس كيف تحوّل الأمن إلى مركز ثقل في نظام حكم اختزل الدولة في جهاز.
لقد حلّقت الطائرة الإسرائيلية فوق السودان بصمت، لكن وقع الحادثة ظلّ يتردد كدويّ انفجار مؤجل. وما كان سرًا بين الخرطوم وتل أبيب، سرعان ما تحوّل إلى سياسة علنية بعد سقوط النظام. السؤال الذي يبقى هو: هل كان عبور الطائرة مجرد اختبار أمني؟ أم خطوة أولى في تطبيع مُقنّع هندسه رجال الظلال، وانكشف لاحقًا بضوء الشمس؟
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.