من غير ميعاد: حين كتب التيجاني سعيد قصيدة الهزيمة فغنّاها وردي نشيداً للحب

منوعات _ شبكة _ الخبر

إذا رأيت فناناً سعيداً فعليك أن تشك في موهبته.

بهذه الجملة الموجعة والمفارِقة، يفتتح الشاعر الفيلسوف التيجاني سعيد حكايته مع الحب، ومع الشعر، ومع أغنيته التي حجزت له مقعداً بين عظماء الأغنية السودانية: من غير ميعاد.

لم يكن التيجاني سعيد شاعراً عادياً، ولم تكن تجربته مع الأغنية تجربة عابرة. بل كان شاعراً يتكئ على حكمة الفلاسفة ووجدان العشّاق المهزومين، ويكتب من حافة التأمل والخذلان معاً. وفي الأغنية التي حملها صوته إلى الناس لأول مرة، لم يكن يقصّ قصة انتصار، بل يوثّق لحظة انكسار شفيف، تحوّلت – بالمفارقة – إلى مدخله الأوسع نحو الخلود.

شاعرٌ غلبه الحب، فكسب الشعر

كانت هي جارتهم. تكبره بأعوام، ولم تعرِه اهتماماً رغم محاولاته العفوية لفت نظرها ببعض الأشعار. “كأنما كنت أقدم إليها معادلات رياضية أو عبارات هيروغليفية”، هكذا وصف محاولاته التي ارتطمت بجمود لا يفهم الشعر ولا ينصت لنبضه.

لكنه لم يتوقف، ولم ينزلق إلى مرارة السخط. بل كتب. كتب لحظة مروره بها “كالظلال”، وحركتها التي “نامت فوق تسابيح البريق”، وجمالها الذي “صحي في نفسي الوجود”. كانت الأغنية اعترافاً ضمنياً بأنه خسر قلبها، لكنه ربح لحظة شعرية ستصير أيقونة، ورمزاً للصدق، وربما للضعف النبيل.

محمد وردي: حين غنّى الهزيمة فغدت انتصاراً

وصلت القصيدة إلى فنان أفريقيا الأول، محمد وردي، عبر الصحف، دون أن يسعى التيجاني – الطالب الثانوي وقتها – لمقابلته أو حتى مخاطبته. وعندما غنّاها وردي في بث مباشر، كانت الفتاة المعنية – التي ألهمته القصيدة – تشاهد التلفاز في منزلهم. فلما سمعَت اسم الشاعر، التفتت إليه بدهشة وسألته: “هل أنت المقصود؟”. لم تكن تلك اللحظة سوى “ابتسامة”، لكنها بالنسبة له كانت كل ما ناله من تلك القصة.

أما اللقاء الأول بين الشاعر والفنان، فقد اختصره وردي بجملة تختصر التباين الزمني والفني: “لو كنت عارفك شافع ما كنت غنيت ليك”. لكنها – على الرغم من حدّتها – لم تكن سوى مدخل لشراكة غير معلنة بين حسّين: واحدٌ يكتب من وجع الشباب، والآخر يغني من عمق التجربة.

أغنية صنعت جسراً بين جيلين

من غير ميعاد لم تكن مجرد عمل غنائي. كانت بمثابة جواز العبور للتيجاني إلى دائرة الكبار. جلس إلى جوار إسماعيل حسن، وصلاح أحمد إبراهيم، ومحمد الفيتوري. تبناه وردي بروح الكبار، واحتفى به زملاؤه من عمالقة الغناء، حتى قال له أحمد المصطفى ممازحاً: “بس ما تخلي وردي يحتكرك زي ما احتكر إسماعيل حسن”.

القصيدة التي وُلدت من هزيمة حب، صنعت من التيجاني واحداً من أجمل من كتبوا في العاطفة السودانية الحديثة. وهي الأغنية التي كانت سبباً – كما قال – في حب آخر، خائب أيضاً، تمخضت عنه أغنيته التالية قلت أرحل، التي وعد أن يحكي قصتها بعد وفاته.

ما بين الشاعر والمغني: نغمة صدق لا تموت

بين التيجاني سعيد ومحمد وردي، تلاقت عوالم مختلفة: شاعر يكتب من منفى القلب، وفنان يختار كلماته من مناجم الصدق النادر. لم يلتقيا كثيراً، لكن من غير ميعاد كانت كافية لتقول كل شيء. لحظة الصدفة العابرة، اللقيا التي لا ترتب لها المواعيد، فتجيء، وتُشعل الحواس، وتفتح جرحاً لا يندمل.

“لي الليلة ما وشوش نسيم

في الروض وما غرد مساء”

لا يزال صداه حياً.

لا يزال التيجاني، الشاعر الذي لم يكسب محبوبته، مقيماً في القلوب، لأنه عرف كيف يحوّل الخسارة إلى ذهب.


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *