الفاشر ـشبكة_الخبرـ على موائد من الصبر، وفي أوعية من العطاء، تتقاسم آلاف الأمهات والأطفال وكبار السن في مدينة الفاشر قوتهم اليومي الذي لا يأتي من وفرة، بل من كرم يعبر الحدود، ويتحدى الحصار.
في قلب مدينة تحاصرها نيران الحرب وتقطع عنها سبل الحياة، تنهض “تكية الفاشر” كضوء خافت في نفقٍ حالك. منذ يونيو الماضي، لم تنقطع هذه التكية عن أداء رسالتها: إطعام من عصفت الحرب بمنازلهم، وهجّرتهم إلى معسكرات الإيواء، وجعلتهم غرباء في وطنهم.
محي الدين محمد أحمد عبد القادر، الملقب بـ”شوقار”، لا يدير مطبخاً فقط، بل يقود ملحمة إنسانية تُسجّل يومياً على نار الوجع. يقول إنهم اليوم وحده، قدموا وجبة الإفطار لأكثر من 12 ألف نازح في ثمانية مراكز للفاشر ودار السلام وطويلة، بمتوسط 1500 شخص لكل مركز.
لكن ما وراء هذا الرقم، قصص لا تُروى إلا بالدمع: نساء فقدن أزواجهن، وأطفال انطفأ ضوء المدرسة في عيونهم، وعجائز يلوذون بما تبقّى من أيامهم في ظل خيمة، لا تقي من برد الليل ولا من حر الجوع.
اللافت أن هذا الصمود لا يستند إلى دعم مؤسسي أو إغاثي دولي منظم، بل على فتات من الخير العابر للحدود. فاليوم الأربعاء مثلاً، أتت الوجبات بدعم فردي وجماعي من مصر، وبريطانيا، والسعودية، بل ومن أبناء السودان في المنافي والمدن البعيدة. سيدة من مصر تُدعى رانيا أم أحمد تكفلت بمركز كامل، وجمعيات وأفراد من برمنغهام وجدة ومدن سودانية عدة وضعوا أياديهم، وكأنما أرادوا أن يقولوا: لسنا بعيدين عنكم.
“نعيش على الكرامة وحدها”، يقول شوقار بصوت متعب. ثم يضيف بنبرة تمسك بتلابيب الأمل: “لكن الحصار خانق. الفاشر مخنوقة بالجوع والعطش وانعدام النقد والمواد التموينية. نحتاج إلى فكّ هذا الحصار كي نستطيع الاستمرار”.
الحرب التي طوّقت المدينة من جهاتها الأربع، قطعت الشرايين التي كانت تمدّها بالقمح والعدس والسكر، ومعها انقطعت حياة بأكملها. وتكية الفاشر، التي تحاول أن تزرع الحياة وسط الركام، تواجه اليوم خطر التوقف. ليس لأن العزيمة وُهنت، بل لأن الجوع أقوى من الكلمات.
ومع كل ذلك، لا تزال الأواني تغلي، والملاعق تُمدّ، والدعوات ترتفع من خيام النازحين، سائلة الرحمة لمن يرسل لقمةً في زمن المجاعة.
في الفاشر، لا أحد يشبع، لكن أحداً لا يُترك ليموت وحده.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.