حديث المدينة – الأربعاء 7 مايو 2025
دخلت على الرئيس نميري في مكتبه بقاعة الصداقة وهو في أوج قوته، بصفتي رئيسًا للاتحاد العام للطلاب السودانيين بمصر. لفت انتباهي العدد الكبير من الصحفيين والمصورين الذين تحلّقوا حولنا، يلتقطون الصور بأصوات صاخبة. ربما لاحظ توتري من هذا الموقف المفاجئ، فما إن جلسنا – وما زالوا حولنا – حتى قال لي: “نحن في الجيش نتعلم ألا نندهش أو نتوتر، ونتعامل مع أي حدث، مهما كان كبيرًا أو صادمًا، وكأنه غير موجود. مثلما أنظر الآن من نافذة هذه القاعة.” ثم نظر إلى النافذة المطلة على “جزيرة توتي”.
تذكرت حديث نميري أمس، عندما عاشت البلاد صدمة كبرى جراء قصف طائرات مسيّرة لمستودعات البترول في ميناء ومطار بورتسودان. ربما كان هذا الحدث الأول من نوعه في تاريخ الدولة السودانية منذ نشأتها. أعين الشعب تفيض بالدمع وهي تسأل: لماذا؟ لماذا يدمرون بنيتنا التحتية الفقيرة؟
الغضب الذي اجتاح الشعب السوداني طرح السؤال الحتمي: ماذا نفعل؟ ما الذي يجب علينا فعله للثأر لما أصاب بلادنا؟
هذا السؤال يتقلب في صدور السودانيين كالجمر، إلا أن الإجابة عليه تحدد ليس فقط طبيعة الرد، بل أيضًا مدى رُشد الدولة وقدرتها على إدارة الأزمات بما يحقق أفضل النتائج، وليس مجرد تفريغ الغضب الشعبي.
الإجابة جاءت سريعة من مجلس الدفاع والأمن، الذي انعقد وأصدر بيانًا يأمر بقطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الإمارات العربية المتحدة، دون الإشارة إلى العلاقات الاقتصادية.
بعدها، ألقى رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان خطابًا مرتجلاً على خلفية الكورنيش والميناء، حيث تظهر الرافعات. تحدث بلغة هادئة ورصينة، ذكّرتني بما قاله نميري عن الهدوء وتجنب الانفعال وعدم التوتر.
أكد البرهان في خطابه برسائل قوية أن الشعب السوداني قادر على تحمل الأذى والصبر عليه حتى النصر، ثم إعادة بناء ما دمرته الحرب.
كان خطابًا رائعًا معنى ومبنى. فهل تلاشت الصدمة؟
لا، بكل تأكيد. الغارات المتتالية على مطار وميناء بورتسودان خلّفت حاجزًا نفسيًا كبيرًا لدى المواطن، زاد من غضبه وشعوره بوجع الظلم، و-للأسف- بشح الخيارات.
حتى قرار مجلس الدفاع والأمن بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات بدا – جماهيريًا – غير كافٍ، لأن هذه العلاقات كانت أصلاً من طرف واحد. الإمارات سحبت بعثتها الدبلوماسية منذ فترة طويلة، بينما لا تزال السفارة والقنصليات السودانية تعمل في أبوظبي ودبي، لتلبية الحاجة الماسة للمغتربين السودانيين – وما أكثرهم – لخدماتهما.
هنا – في تقديري – الامتحان الحقيقي للقيادة. القائد هو من يستطيع، كما قال نميري، أن يسحب كرسيه بهدوء، ينظر دون توتر إلى رقعة الشطرنج كاملة، ثم يمد يده ويجري النقلة المناسبة في التوقيت المناسب.
ما هي خيارات السودان تجاه الإمارات؟
البعض يدعو للمواجهة، لكن لا يتجاوز تفكيره قطع العلاقات، وربما وقف تصدير الذهب إلى الإمارات. لكنه لا يملك إجابات على الأسئلة الهادئة التي قد يطرحها السودانيون المغتربون في الإمارات: ما هو مصيرنا في ظل هذه المعادلة الدبلوماسية؟
وماذا عن رجال الأعمال الذين لهم استثمارات في الإمارات، أو شركات عابرة، أو حتى مجرد عبور مصرفي للتجارة الدولية عبر البنوك الإماراتية؟
ما الذي يجب أن يفعله السودان؟
سأجيب على هذا السؤال، إن شاء الله.
نقلا عن صحيفة التيار
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.