الحلقة السابعة:
مدخل:
في يونيو 2021، نشرتُ في صحيفة «التيار» سلسلة تحقيقات استقصائية بعنوان: “الجيش والسياسة.. كيف دخل العسكر في صراع السلطة بالسودان؟”، سعيتُ من خلالها إلى تحليل واحدة من أعقد قضايا تاريخنا المعاصر: كيف أصبح الجيش طرفًا أصيلًا في معادلة الحكم؟ ومن المسؤول عن إدخاله هذا المضمار؟
وقد شكّلت تلك السلسلة النواة الأولى لكتاب توثيقي وتحليلي بالعنوان نفسه، ما يزال قيد الإعداد.
وفي هذه المقالات، أقدّم مقتطفات منتقاة من فصوله، تستعرض لحظات مفصلية في علاقة الجيش بالسياسة.
انقلاب رمضان 1990.. الجيش ينتفض ضد التمكين
في فجر 23 أبريل 1990، الموافق 27 رمضان 1410هـ، اهتزّت العاصمة الخرطوم على وقع محاولة انقلابية دموية قادها ضباط من داخل الجيش السوداني، رافضين لحكم الجبهة الإسلامية القومية التي استولت على السلطة في 30 يونيو 1989. كان الانقلاب محاولة لاستعادة الجيش من براثن التمكين الحزبي، لكنه تحوّل إلى مجزرة قضت على 28 ضابطًا خلال 48 ساعة.
جيش في قبضة الإسلاميين
منذ انقلاب الجبهة الإسلامية، قاد الدكتور حسن الترابي عملية “التمكين” داخل الجيش، حيث فُصل عشرات الضباط، وسُجن البعض، وأُحيل آخرون إلى المعاش.
كانت تلك الخطوة هي “أخطر ما واجه المؤسسة العسكرية السودانية”، كما وصفها العميد عصام الدين ميرغني أبو غسان في كتابه الجيش السوداني والسياسة (ص 112)، إذ رأى أن الجيش فقد حياده وتحول إلى أداة حزبية.
التحضير للانقلاب: مبادرة من الداخل
بدأ التخطيط للمحاولة منذ أواخر عام 1989، بمبادرة من ضباط وطنيين، رفضوا التماهي مع النظام الجديد.
لم يكونوا شيوعيين ولا من حزب الأمة أو الاتحادي، بل كانوا “أبناء الجيش المحترفين”، على حد وصف الفريق خالد الزين علي نمر، أحد المتهمين في المحاولة.
تولّى العميد محمد عثمان حامد كرار التنسيق الرئيسي، بمعاونة عدد من الضباط.
أبرز الضباط الذين شاركوا في المحاولة:
الفريق خالد الزين علي نمر ،اللواء الركن عثمان إدريس صالح، اللواء حسين عبد القادر الكدرو
العميد الركن طيار محمد عثمان كرار،العقيد عصمت ميرغني طه،العقيد عبد المنعم بشير مصطفى،العقيد صلاح السيد،العقيد محمد أحمد قاسم ،المقدم بشير الطيب محمد صالح ،المقدم بشير عامر أبو ديك ،الرائد معاوية ياسين ،الرائد أكرم الفاتح يوسف، النقيب مصطفى خوجلي،الرائد سيد أحمد النعمان حسن،الرائد الفاتح خالد،الرائد عصام أبو القاسم
الرائد تاج الدين فتح الرحمن.
الفشل والمجزرة: قرارات خارج القانون
في صبيحة الانقلاب، كانت القوات التي تحركت من سلاح المدرعات تحت المراقبة.
إذ كشفت تقارير أمنية مبكرة خطط التحرك، بعد أن تم اختراق التنظيم من قبل جهاز الأمن بقيادة نافع علي نافع. وبحسب ما أورده العميد أبو غسان (ص 117)، لم يُستدعَ عمر البشير إلا بعد القبض على الضباط، وهناك من يؤكد أنه لم يوقّع على أحكام الإعدام، بل تم تنفيذها بـ”توجيه مباشر من القيادة الأمنية”.
حُوكم الضباط أمام محكمة ميدانية يرأسها العقيد محمد الخنجر، بعضويّة سيف الدين الباقر والجنيد حسن الأحمر ومحمد علي عبد الرحمن.
وخلال يومين فقط، نُفذت الإعدامات داخل السجن الحربي ، وتم دفن الجثث في مقبرة جماعية لا يزال موقعها مجهولًا (صحيفة التغيير، 2020).
ماذا دار في معهد المشاة بكرري
في ظهيرة باهتة بمعهد المشاة بكرري، خيّم الملل على الجنود بغياب اللواء وانعقاد الاجتماعات حول محاولة انقلابية فاشلة.
لم يكن الحارس عند نقطة المرخيات يتوقع أن يشهد موكبًا من العربات يقوده الرائد إبراهيم شمس الدين، تتبعه آليات ثقيلة، نحو الخلاء شمال غرب أم درمان.
هناك، عند خندق محفور، صُفّ ضباط حركة 28 رمضان، وأُطلقت عليهم النيران بدم بارد. لم تأتِ أوامر الإعدام من محكمة، بل من غرور ثوري.
حين عاد شمس الدين إلى القصر، قال للبشير: “أعدمنا الخونة”. سأله البشير: “بأي أمر؟”، فأجاب شمس الدين متحديًا: “أنا من جاء بك إلى الحكم”.
(الرواية نقلا عن صفحة شهداءالخلاص الوطني 28 رمضان)
بعد المجزرة: التمكين يشتد
ساهمت الإعدامات في تعميق الشرخ داخل الجيش، وسرعان ما توسعت سياسة الإقصاء والتمكين، وتم تعيين كوادر الجبهة الإسلامية في مواقع متقدمة داخل الجيش والأمن. وأشار العميد أبو غسان إلى أن هذه الحادثة “هي التي كرّست تحوّل القوات المسلحة إلى مؤسسة حزبية، واستبعاد كل صوت مهني مستقل” (ص 134)
رد الفعل الشعبي والعدالة المعلقة
في العقود التالية، أصبحت ذكرى “شهداء 28 رمضان” حاضرة بقوة في وجدان الشعب السوداني، وخاصةً في أوساط أسرهم التي طالبت مرارًا بالكشف عن مكان الدفن ومحاكمة المتورطين.
وفي عام 2020، أعلنت القيادة العامة ترقية الضباط إلى رتبهم المستحقة، ومنح تعويضات رمزية لعائلاتهم (الراكوبة، 2020).
بعثيون في مواجهة الإسلاميين
كانت محاولة انقلاب أبريل 1990 من أبرز التعبيرات عن الصراع بين التيار الإسلامي الحاكم والتيارات القومية المعارضة داخل الجيش. وقد نفذ المحاولة عدد من الضباط، على رأسهم العقيد محمد عثمان حامد كرار، المعروف بانتمائه لحزب البعث العربي الاشتراكي. ووفقاً لتقرير “هيومن رايتس ووتش” (1991): “أغلب الضباط الذين أُعدموا بعد محاولة انقلاب 1990 كانوا متأثرين بالفكر القومي العربي، وبعضهم نشط في تنظيمات بعثية داخل القوات المسلحة”.
ويذكر الباحث حيدر إبراهيم علي أن “الانقلاب كان تعبيراً عن صراع أيديولوجي بين الإسلاميين الذين استولوا على السلطة عبر انقلاب يونيو 1989، وبين الضباط القوميين البعثيين الذين رأوا في الحكم الجديد خطراً على هوية الدولة القومية” (التيارات الإسلامية والمقاومة السياسية في السودان، ص 145). أما في مذكرات أسرة العقيد كرار، فقد ورد أنه “كان يحمل إيماناً عميقاً بفكر البعث، وكان يرى أن الإنقاذ اختطفت الجيش والدولة لصالح مشروع الإسلام السياسي، مما دفعه للتحرك ضدها مع رفاقه”.
جاء انقلاب رمضان 1990 كأول مواجهة دموية بين مشروع “التمكين” الذي فرضته الجبهة الإسلامية على المؤسسة العسكرية، وبين الضباط المهنيين الذين رأوا في ذلك تقويضاً لحيادية الجيش وخيانة لرسالته الوطنية.
لم يكن الانقلاب مجرد مغامرة فاشلة، بل كان تعبيراً صريحاً عن أزمة عميقة داخل القوات المسلحة، بدأت منذ انقلاب يونيو 1989، وتجلّت في تحوّل الجيش من مؤسسة قومية إلى ذراع حزبي مطيع. ورغم فشل محاولة رمضان، فإنها كشفت مبكراً عن التناقضات الفكرية والانقسامات الأيديولوجية التي غذّاها نظام الإنقاذ داخل الجيش، وبيّنت كيف يمكن لسياسة الإقصاء والتمكين أن تقود إلى صراعات دموية لا يدفع ثمنها سوى الوطن وأبناؤه.
في الحلقة الثامنة من هذه السلسلة، ننتقل إلى محطة مفصلية أخرى في مسار الحكم الإسلامي العسكري، وهي مفاصلة الإسلاميين في أواخر تسعينيات القرن الماضي، حين تصدّع التحالف بين جناح البشير العسكري وجناح الترابي المدني، لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع على السلطة داخل معسكر الإسلاميين أنفسهم.
—
المراجع:
1. عصام الدين ميرغني أبو غسان، الجيش السوداني والسياسة، ط. دار مدارك، 2014
2. موقع الراكوبة، “شهداء 28 رمضان.. ذاكرة لا تموت”، 2020.
3. صحيفة التغيير، “الجيش السوداني يعلن عن ترقيات وتحديد موقع مقبرة شهداء رمضان”، 2020.
4. فتحي الضو، الخندق: أسرار دولة الفساد والاستبداد، 2012.
5. تقارير هيومن رايتس ووتش عن السودان، 1990–1991.
6. مقابلات مع أسر الشهداء عبر قناة الجزيرة مباشر، 2019–2021.
7. حيدر إبراهيم علي، التيارات الإسلامية والمقاومة السياسية في السودان، مركز الدراسات السودانية، 2001.
8. محمد عبد الله الريح، الانقلابات العسكرية في السودان، دار عزة للنشر، الخرطوم، 2005.
9. أرشيف صحيفة “الصحافة” السودانية، أعداد أبريل–مايو 1990.
10. مذكرات وأسرة العقيد محمد عثمان حامد كرار، منشورة في صحف سودانية
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.