حين تنتصر الأقلام على البنادق: الشهادة السودانية في زمن الحرب

بورتسودان  ـشبكة_الخبر ـ  في لحظة فارقة بين ركام المدن المحترقة وصمت الفصول المهجورة، جاء إعلان نتيجة الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة 2023 بمثابة شُعاع ضوء وسط عتمة الحرب. ففي مؤتمر صحفي ببورتسودان، أعلن وكيل وزارة التربية والتعليم، د. أحمد خليفة، أن نسبة النجاح العامة بلغت 69%، معلنًا انتصارًا للمعرفة في زمن البنادق.

لم يكن مجرد إعلان عن نتيجة امتحان، بل كان بيانًا وطنيًا في وجه المحنة. فبعد عامين من التأجيل بسبب الحرب التي اجتاحت الخرطوم ومناطق واسعة من السودان، تمكنت وزارة التربية والتعليم من عقد الامتحانات في سبتمبر 2024، متحديةً ظروف التهجير والدمار والتشتت. جاء ذلك بدعم من ولاية نهر النيل، ومؤسسات الدولة، وبدفع من إرادة لا تنكسر.

احتلت الطالبة إسراء حيدر محمد أحمد من الولاية الشمالية المركز الأول بنسبة 97.1%، تلتها أسماء القاسم من الخرطوم، ووعد محمد أحمد من مراكز الخارج. ثلاث طالبات، من ثلاث جبهات جغرافية، جمعتهن الإرادة رغم المسافات والتحديات. وهنّ بمثابة تجسيد لصورة السودان الممكن، حيث تتقدّم البنات الصفوف، ويُصنع النصر بالعلم لا بالسلاح.

أطلق الدكتور خليفة على هذا الإنجاز اسمًا ذا دلالة: “فصل من فصول حرب الكرامة”. وهو تعبير يفكّك الحدود التقليدية بين الحرب والسلم، بين المعركة العسكرية ومعركة الوعي. فحين تصرّ الدولة ومجتمعها على استمرار العملية التعليمية رغم تفكك المركز وتلاشي البنية التحتية، فإنها تؤكد أن الصراع الحقيقي هو على المستقبل، لا على الخرائط.

في عالم تُمزّقه الحروب الأهلية، يصبح استمرار التعليم فعلاً مقاومًا، وتغدو الشهادة الدراسية شهادة حياة في وجه مشروع التجهيل والقهر. وفي السودان، حيث تفقد الأسر أبناءها في الحرب، وتُحرق الجامعات والمدارس، يشكل هذا النجاح الجماعي – وإن كان نسبيًا – تعبيرًا عن تشبث الناس بالحياة والمعنى.

إن هذا الإعلان لا ينبغي أن يُقرأ كمجرد خبر عابر، بل كوثيقة من وثائق الصمود السوداني. فكل ورقة امتحان كُتبت تحت القصف، وكل قاعة دراسية أُعدّت وسط الشكّ والخطر، هي بمثابة خندق من خنادق الدفاع عن فكرة الوطن.

وإذا كانت الحرب قد أعادت سؤال الدولة إلى الواجهة، فإن التعليم يعيد سؤال المجتمع: من نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟ وبينما تتقاتل النخب على السلطة والثروة، يختار التلاميذ أن يكتبوا على دفاترهم مستقبلًا مختلفًا.

 


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.